24 - 10 - 2025

المنطقة الرمادية | غزة في هندسة النفوذ الجديدة

المنطقة الرمادية | غزة في هندسة النفوذ الجديدة

في المشهد السياسي الذي يُعاد ترتيبه بهدوء بعد العواصف، تتجه الأنظار إلى مساحة ضيقة على الخريطة، اسمها غزة، لكنها في حسابات القوى الكبرى أوسع من جغرافيتها بكثير.

هناك، تدور معركة لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بالمفاهيم من يدير، ومن يعيد الإعمار، ومن يملك الحق في تحديد الغد.

منذ أن طرح دونالد ترامب مقترحه لإدارة القطاع مطلع عام 2025، بدت الفكرة في ظاهرها خطة إنقاذ لما تبقّى من غزة، لكنها في عمقها مخطط لإعادة تموضع النفوذ الأمريكي في قلب المشهد الفلسطيني. فالحديث عن “منطقة تطوير خاصة” و”إدارة انتقالية دولية” ليس سوى مفردات جديدة لمفهوم قديم: السيطرة عبر التنمية.

الخطة تتحدث عن إعمار واسع، واستثمارات، وبنية تحتية حديثة، لكن ما بين السطور يظهر مشروع أكبر: تحويل غزة من قضية سياسية إلى ملف إداري، تُدار شؤونها تحت إشراف خارجي، بينما يتراجع حضور القرار الفلسطيني الفعلي.

في المقابل، تتكشّف ملامح ما يمكن تسميته “المقايضة الصامتة” انسحاب إسرائيلي تدريجي مقابل ضمانات أمنية، وفتح الباب أمام الشركات الأمريكية لتكون “مفتاح الإعمار”، بشرط أن يُعاد رسم الخريطة السكانية على نحو جديد — خريطة قد لا تعترف بحق العودة، بل بحق البقاء المؤقت.

في الكواليس، تتحرك القاهرة والعواصم العربية الكبرى لتثبيت خطوط حمراء لا تهجير، لا وصاية أجنبية، ولا أمن دولي بديلاً عن السيادة الفلسطينية.

لكن الخطط، كما العواصف، لا تنتظر كثيرًا. كل تصريح أمريكي يتبعه تسريب إسرائيلي، وكل مبادرة عربية تقابلها ورقة “اقتصادية” جديدة تحمل توقيع شركات استثمارية غامضة، كأن الإعمار أصبح الوجه الآخر للهندسة الجيوسياسية.

ترامب نفسه قدّم مقترحه بلغة “الإنقاذ”، لكنه في الجوهر يعيد إنتاج منطق الصفقات الذي عرفه الشرق الأوسط منذ “صفقة القرن”: إعادة تعريف الأطراف، وتدوير الأزمة في شكل مشروع اقتصادي قابل للتسويق.

من هنا، فإن السؤال الحقيقي لا يتعلق بغزة كمكان، بل بغزة كرمز. هل يمكن تحويلها من مساحة مقاومة إلى منطقة تجريبية للنظام الجديد في المنطقة؟

الإجابة لا تزال تتشكل بين الركام، بين وعود المانحين وخطوط النار.

غزة ليست فقط اختبارًا لإرادة الفلسطينيين، بل مرآة لما بعد الحرب: من سيكتب القواعد الجديدة، ومن سيحرسها.

أما الحديث عن “إدارة انتقالية” و“إعمار شامل”، فهو في النهاية اسم آخر لمرحلة يُراد فيها أن تُدار غزة... دون أن تحكم نفسها.
--------------------------
بقلم: حاتم نظمي


مقالات اخرى للكاتب

المنطقة الرمادية | غزة في هندسة النفوذ الجديدة